منوعات

بلجيكا تُسلّم مصر قطعتين أثريتين بعد انتظار دام 10 سنوات

في لحظة استثنائية من مسار استعادة التراث الثقافي المنهوب، شهدت العاصمة البلجيكية بروكسل، في العاشر من يوليو الجاري، حفلا دبلوماسيا رسميا سلّمت خلاله السلطات البلجيكية قطعتين أثريتين نادرتين إلى الحكومة المصرية، منهية بذلك عقدًا من الانتظار والمفاوضات القانونية المعقدة.

جاء قرار التسليم بأمر صادر عن مكتب النائب العام البلجيكي، استنادا إلى بلاغ صادر عن الإنتربول الدولي عام 2015، ما أضفى على الحدث طابعا غير تقليدي، اعتبره الإعلام البلجيكي “رمزا لتحول عميق في موازين القوة الثقافية”، يتجاوز مجرد إعادة ممتلكات مسروقة، ويعبّر عن “صراع طويل الأمد حول ملكية التراث الإنساني بين دول الشمال والجنوب”.

القطعة الأبرز من بين المقتنيات المُعادة كانت تابوتا خشبيا فريدا من العصر البطلمي (القرن الثالث أو الرابع قبل الميلاد)، يعود لأكثر من ثلاثة آلاف عام، ويُعتقد أن التابوت يحتوي على مومياء شخصية بارزة تدعى “با-دي-حور-با-خيرد”، ويعني اسمه باللغة المصرية القديمة: “الذي وهبه حورس الطفل”، يتميز التابوت بتصميمه الفني الأخّاذ، إذ يجمع بين ماء الذهب وتدرجات اللون الأزرق، وتتوسطه عينان مرصعتان بالزجاج الملوّن، بينما تزين جدرانه نقوش هيروغليفية دقيقة تروي رحلة المتوفى إلى العالم الآخر. وتُظهر الرسوم المنقوشة على التابوت أن المتوفى قد ارتقى إلى مقام الإله أوزيريس، حاكم العالم السفلي، كما تشير ملامح الوجه الذهبي والشعر الأزرق إلى سمات إلهية بارزة.

أما القطعة الثانية، فهي لحية خشبية كانت تزيّن تمثالا ملكيا أو إلهيا مصريا، ما يُضفي عليها بعدا رمزيا يعكس المكانة الروحية للتماثيل في الحضارة المصرية القديمة.

جرت مراسم التسليم داخل ممر “Kloostergang” التاريخي، الواقع في قلب مجمع المتاحف الملكية للفن والتاريخ في بروكسل، وسط أجواء جمعت بين الرسمية والرهبة، الممر مزدان بنقوش جنائزية من العصور الوسطى، أضفت على الحفل طابعًا من القداسة، خاصة مع التسليم الرسمي للتابوت النادر، والذي وصفه النائب العام البلجيكي جوليان مونيل بأنه “فعل من أفعال العدالة”، مضيفا: “بعد عشر سنوات من التحقيقات والإجراءات، فإن إعادة جزء من التراث المنهوب إلى موطنه الأصلي يُعد انتصارا للحق”.

جذور المشكلة

تعود بداية القصة إلى عام 2015، حين تلقى الإنتربول بلاغا بشأن قطع أثرية مصرية مسروقة ظهرت في السوق الفنية البلجيكية، وكشفت التحقيقات لاحقا عن شبكة دولية تنشط في تهريب الآثار، أدت إلى ضبط التابوت واللحية الخشبية لدى أحد تجار التحف في بروكسل. ورغم مصادرتها سريعًا، تعطلت عملية إعادتهما لمصر لعقد كامل بسبب تعقيدات قانونية وإجراءات قضائية متعددة، حتى صدر حكم نهائي من محكمة النقض البلجيكية في أبريل 2025 قضى بإعادة القطعتين لمصر.

تتعمق أهمية الحدث عند وضعه في إطاره الأوسع؛ فبحسب تقرير حديث صادر عن منظمة اليونسكو، تضم المتاحف البلجيكية أكثر من خمسة آلاف قطعة أثرية مصرية، يُعتقد أن نحو 30% منها دخلت البلاد عبر طرق غير قانونية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. ويضم متحف الفن والتاريخ في بروكسل وحده ما يقرب من 1800 قطعة، من بينها تماثيل لأبي الهول، مجموعات نادرة من البرديات، ومومياوات لا تزال محفوظة داخل توابيتها الأصلية. وقد دخلت معظم هذه القطع إلى بلجيكا خلال الاحتلال البريطاني لمصر، أو عبر تجار تحف أوروبيين استغلوا حالة الفوضى السياسية التي أعقبت الثورة العرابية وحتى ما بعد ثورة 2011.

ولا تقتصر أزمة التراث المنهوب على مصر وحدها، إذ تكشف التجربة البلجيكية عن إرث استعماري ثقيل يمتد إلى القارة الإفريقية، ففي متحف أفريقيا بمدينة “تيرفورن”، الذي أُنشئ عام 1910 لعرض “إنجازات” الاستعمار البلجيكي في الكونغو، تحتفظ الدولة البلجيكية بنحو 120 ألف قطعة أفريقية، 90% منها من الكونغو الديمقراطية. وتشير تقارير إلى أن 70% من هذه القطع وصلت إلى بلجيكا خلال فترة الاستعمار (1885–1960)، عبر النهب أو ما يُسمى بـ”الهدايا القسرية” التي كانت تُنتزع من الزعماء المحليين.

من أبرز هذه المقتنيات، تمثال “نكيسي نكوندي” الشهير، الذي استُخدم لترهيب السكان المحليين والعمال في القرن التاسع عشر، وتحول اليوم إلى أيقونة للنضال الكونغولي من أجل استعادة تراثه، ورغم إعلان الحكومة البلجيكية في 2021 نيتها إعادة الملكية القانونية لآلاف القطع إلى الكونغو، لا تزال معظمها معروضة داخل المتاحف البلجيكية، بذريعة أن الكونغو “غير مستعدة للحفاظ عليها” — وهي ذات الحجة التي طالما استخدمتها دول أوروبية، مثل ألمانيا، لتبرير عدم إعادة قطع أثرية إلى بلدانها الأصلية، كما في حالة رأس نفرتيتي الذي تطالب به مصر منذ عقود.

زر الذهاب إلى الأعلى