أسعار الحبوب تضع مصر أمام تحد وجودي.. فما علاقة أمريكا وإسرائيل؟
تشكل الحالة الهشة للأمن الغذائي في مصر تهديدًا وجوديًا لاستمرار اقتصاد البلاد وحكومة رئيسها عبدالفتاح السيسي، وهي الحالة التي ازجاجت هشاشة مع تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وكانت القشة التي قد تقصم ظهر البعير هو انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب، وتزيد الأزمة الغذائية من خطر التضخم المفرط الذي دخلت إليه القاهرة، بعد تسببها في تزايد أسعار السلع الغذائية الأساسية.
الأمر كارثة بكل المقاييس على مصر، كما يرى تقرير مطول كتبه الإسرائيلي “مايكل تانخوم”، الباحث في مركز الطاقة العالمي التابع للمجلس الأطلسي، ونشره “معهد الشرق الأوسط MEI”، حيث يتمثل الحل الوحيد أمام مصر للهروب من هذا المصير المظلم للاقتصاد تقليل وارداتها الغذائية من خلال توفير المزيد من غذائها محليا.
وفي حين أن جهود بناء البنية التحتية في مصر لخلق إمدادات مياه إضافية لتوسيع الزراعة المحلية يبشر بتغيير، فهي رؤية تعيش في الوقت الضائع، حيث تحتاج القاهرة إلى سداد أو إعادة تمويل ديون بقيمة 20 مليار دولار على مدار الـ 12 شهرًا القادمة، مع استخدام احتياطياتها الأجنبية المتناقصة لاستيراد الغذاء، وإنفاق 4.14 مليار دولار على الإعانات لجعل هذا الغذاء المستورد في متناول السكان.
500 يوم ثقيلة
وبعد نهاية مبادرة حبوب البحر الأسود بانسحاب روسيا منها، من المرجح أن تشهد الـ500 يومًا القادمة من الصراع الروسي الأوكراني تفاقمًا عميقًا لأزمة الغذاء العالمية، وسيكون تأثيره على القاهرة مريعا، كما يقول التقرير.
وأمام هذه المعضلة، ليس لدى مصر وقت لتضيعه من أجل تبني حلول التكنولوجيا الزراعية لتجنب حدوث تراجع فوري وكارثي في أمنها الغذائي، ومواجهة آثار ندرة المياه بسبب التغيرات الجيوسياسية والمناخية.
ارتفاع التضخم
وقد أدت الأزمة الغذائية ونقص الحبوب الموردة لمصر إلى ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية، ما يهدد بتفجر التضخم الكبير الذي سجل في يونيو/حزيران 2023 رقما قياسيا مقلقا بلغ 36.8٪ ، أي أكثر من ضعفين ونصف عن 13.6٪ في العام السابق.
وقد حولت الحرب الروسية الأوكرانية أزمة الغذاء في مصر إلى تهديد وجودي للاقتصاد، فبحلول نهاية ديسمبر/كانون الأول 2022، اضطرت القاهرة إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار، لدرء كارثة مالية ناجمة عن مجموعة من المشاكل طويلة الأمد والتي تفاقمت بسبب فقدان أوكرانيا كمورد رئيسي للحبوب والبذور الزيتية بأسعار معقولة.
الآن، يقترب الاقتصاد المصري بسرعة من نقطة تحول كارثية، يقل الكاتب، مضيفا أن قرار روسيا في 17 يوليو/تموز الجاري بوقف مبادرة حبوب البحر الأسود – وهي خطوة انتقدتها مصر أثناء تعهدها بمواصلة استيراد القمح الأوكراني عبر أوروبا – ستجهد القاهرة المثقلة بالفعل بالأعباء في الوقت الذي تسعى فيه لتأمين الواردات الغذائية لمواطنيها البالغ عددهم 105 ملايين مواطن.
وشهدت أسعار الحبوب قفزة في يونيو الماضي بمصر بنسبة 58.9٪.
وأدى ارتفاع أسعار القمح والذرة بدوره إلى رفع تكلفة المواد الأساسية من الخبز إلى زيت الطهي إلى مستويات تجاوزت الميزانية.
وبالإضافة إلى كونها عامل استقرار في الخبز، فإن الذرة هي المكون الرئيسي لتغذية الحيوانات للماشية والدواجن والأسماك، حيث ساعد ارتفاع أسعار الحبوب في دفع أسعار اللحوم والدواجن في يونيو 2023 إلى 92.1٪%، وتسبب ارتفاع الأسعار في انخفاض متوسط المعروض من البروتين في مصر بنسبة 200% في السنوات الثلاث الماضية، حيث انخفض من 95.3 جرامًا للفرد يوميًا إلى 30.5 جرامًا فقط.
الزراعة في مصر
ويقول الكاتب إن إنتاج الأغذية الزراعية في مصر لا يفي حتى بنصف الطلب المحلي على المنتجات الأساسية الرئيسية، ولا سيما حبوب الحبوب والقمح والذرة (الذرة).
وبالتالي ليس لدى مصر بديل سوى زيادة إنتاجها المحلي من الأغذية الزراعية، حتى مع تفاقم ندرة المياه الشديدة بسبب تغير المناخ.
وقد شرع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في بناء مشاريع طموحة للبنية التحتية لزيادة إمدادات المياه المتاحة للزراعة.
وعلى الرغم من كونه أساسًا ضروريًا، إلا أن بناء البنية التحتية وحده لن يكون كافيًا، حيث يجب أن تتحول مصر إلى التبني المتزامن لحلول التكنولوجيا الزراعية المتطورة لتحسين كفاءة استخدام المياه للمحاصيل نفسها.
((3))
للقيام بذلك، يجب على القاهرة إعطاء الأولوية للتكنولوجيا الزراعية كمجال للتعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وأوروبا والشركاء الأجانب الآخرين.
وتمثل العقبة الأساسية أمام تخفيف أزمة الغذاء في مصر من خلال زيادة إنتاج الحبوب في كفاءة استخدام المياه وسط ندرتها المتزايدة.
وبينما يتطلب إنتاج كيلوجرام من البطاطس 287 لترًا من الماء والطماطم 214 لترًا، فإن كمية المياه اللازمة لإنتاج الحبوب من الحبوب تزيد بخمس مرات على الأقل، حيث يتطلب القمح 1،827 لترًا للكيلوجرام، والذرة 1،222 لترًا.
الإجهاد الحراري وندرة المياه
ومع هطول الأمطار السنوي الذي يبلغ متوسطه الضئيل 33.3 ملم، تعتمد مصر على نهر النيل لتوفير ما يقرب من 90% من استهلاكها من المياه العذبة بحوالي 65 مليار متر مكعب، يستخدم أكثر من 80% منها في الزراعة.
ومع تزايد الإجهاد الحراري وندرة المياه بسبب تغير المناخ، تواجه القاهرة بالفعل تحديًا لمجرد الحفاظ على مستوياتها الحالية من إنتاج الأغذية الزراعية.
يؤدي التبخر المرتفع في مصر إلى تفاقم الصعوبات التي يواجهها قطاعها الزراعي ، الذي يعتمد أكثر من 99% منه على الري.
وحتى بدون الإجهاد الحراري ، فإن حوالي 50% من المياه المستخدمة في الري بالغمر التقليدي لا تصل أبدًا إلى نظام الجذر.
وفي ظل ظروف الإجهاد الحراري، تعتمد المحاصيل على التبخر للتبريد للحفاظ على درجة حرارة قابلة للحياة، حيث تتنبأ نماذج الإسقاط لتغير المناخ بأن الارتفاع المحتمل في التبخر النتحي سيؤدي إلى زيادة الطلب على المياه للري بنسبة تصل إلى 13%.
وفي ظل غياب الإجراءات المضادة الفعالة، يتوقع البنك الدولي أن تؤدي ندرة المياه الناتجة عن تغير المناخ والضغط الحراري إلى خفض إنتاج مصر من القمح والذرة بنسبة تتراوح بين 10 و 20%، كما ينقل التقرير.
الإنتاج الحيوني
وسيكون للانخفاض في إنتاج الحبوب بسبب الإجهاد الحراري وندرة المياه تأثير متناسب على الإنتاج الحيواني في مصر، والذي يمثل حوالي ربع الناتج المحلي الإجمالي الزراعي.
ويعتبر لحم الدجاج، الذي يتم تربيته على علف يتكون من 70% من الذرة، أكبر منتج زراعي في مصر من حيث القيمة.
وعلى الرغم من شعبيته كبديل أرخص للحوم الحمراء الأكثر تكلفة، فإن إنتاج لحم الدجاج نفسه يتطلب 4325 لترًا من الماء لكل كيلوجرام.
وحتى الأسماك، التي يُربى الكثير منها في المزارع السمكية التي تتغذى على علف سمكي مكون بالمثل من الذرة، يمثل 25.3% من متوسط استهلاك البروتين للأسرة المصرية.
وتواجه مصر عجزا مائيا سنويا يتراوح بين 30 و 35 مليار متر مكعب، وفقا لوزير الموارد المائية والري المصري هاني سويلم.
وفي حديثه أمام البرلمان، ألقى سويلم باللوم على نقص المياه في حاجة مصر لاستيراد الغذاء.
تحلية مياه البحر وتحديث أنظمة الري
لمعالجة المشكلة، اعتمدت مصر بالفعل الخطة الوطنية للموارد المائية 2017-2037، والتي تبلغ مدتها 20 عامًا، وهي عبارة عن برنامج بنية تحتية واسع النطاق، وتبلغ قيمته 50 مليار دولار، ويشمل إنشاء العديد من محطات تحلية المياه والبناء الهائل لنظام الري الزراعي في البلاد وتحديثه.
ويقول التقرير إن إنشاء مصدر مياه إضافي باستخدام تحلية مياه البحر بات ضرورة حتمية لمصر، وستكون له أيضًا فائدة جيوسياسية تتمثل في تقليل تعرضه لخسائر المياه التي قد تحدث عندما يصبح سد النهضة الإثيوبي الكبير عند المنبع على نهر النيل جاهزًا للعمل بشكل كامل.
ومع ذلك، فإن تحلية مياه البحر كثيفة الاستهلاك للطاقة، حيث يتطلب التناضح العكسي لمياه البحر (SWRO) 10 أضعاف كمية الطاقة لإنتاج نفس حجم المياه مثل معالجة المياه السطحية التقليدية، لكن هذه المشكلة يمكن التقليل منها، على اعتبار أن مصر تمتلك فائدا في الطاقة الكهربائية كما يقول السيسي (لم يتطرق التقرير لازمة انقطاعات الكهرباء المتواصلة في البلاد منذ أسبوعين، على الأقل، بسبب ما تقول الحكومة إنها أزمة وقود تتمثل في ضعف خطوط الغاز المغذية للمحطات).
وتتطلع القاهرة إلى بناء 21 محطة لتحلية المياه وتسعى للحصول على استثمارات أجنبية للمساعدة في تحمل تكلفة 3 مليارات دولار من تطوير المرحلة الأولى.
وعند اكتماله، سيسهم المشروع الذي تبلغ تكلفته 8 مليارات دولار بنحو 3.21 مليار متر مكعب في إمدادات المياه في مصر، أي ما يقرب من 10% من العجز الحالي.
ولتحسين أنظمة الري، تنفذ الحكومة برنامجًا بقيمة 2.6 مليار دولار لإعادة تأهيل 20 ألف كيلومتر (12427 ميلًا) من نظام القنوات في البلاد.
وستأتي وفورات المياه الحقيقية من استبدال الري بالغمر التقليدي بالري بالتنقيط وأشكال أخرى من الري الحديث.
تحسن جودة البذور
يرى التقرير أن هذا الأمر لا يزال يشهد تقصيرا كبيرا في مصر، حيث يتعاون كل من مركز البحوث الزراعية في مصر ومعهد بحوث الهندسة الوراثية الزراعية مع المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا) لتحسين أصناف القمح وإيصالها إلى المزارعين، لكن هناك المزيد الذي يتعين القيام به.
وقامت (إيكاردا)، ومقرها بيروت، وشركاؤها المصريون بتوزيع ما يقرب من 20 ألف طن من البذور المعتمدة المقاومة للصدأ وذات الإنتاجية العالية.
وعلى الرغم من أن هذه البذور تتمتع بميزة إنتاجية تتراوح بين 21-25% مقارنة بالأصناف التجارية الشائعة، إلا أن الكمية الموزعة تكفي لتغطية 11% فقط من مساحة زراعة القمح في مصر.
مبادرة أمريكية إسرائيلية
ويروج التقرير لمبادرة أمريكية إسرائيلية لتطوير نباتات قمح تحتوي على العدد الصحيح من نسخ مجموعة الجينات OPRIII لتحفيز نمو جذور أطول قادرة على سحب المياه من مناطق أعمق في التربة، ليكون القمح مقاوما للجفاف وإنتاجيته أغلى من الحبوب.
وهناك أيضا المحفزت الحيوية، كما يقول الكاتب، وهي عبارة عن مغذيات تحفز العمليات الطبيعية للنباتات لتعزيز امتصاصها للمغذيات أو قدرتها على تحمل الإجهاد الحراري والجفاف.
ومن المحتمل أن تكون المحفزات الحيوية حلاً مهمًا يمكن نشره في مصر في إطار زمني قصير نسبيًا، وفقا للتقرير.