تقارير

هل يؤدي ملف الأسرى الإسرائيليين إلى إفشال خطة نتنياهو بشأن غزة؟

بعد مرور ثلاثة أسابيع من الحرب على غزة، بدأ الإسرائيليون بالتركيز على قضية واحدة أكثر من غيرها: مصير الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في غزة. وهو ما جعلها القضية السياسية الأبرز في الدولة العبرية حالياً، خاصة بعد تصاعد تحركات أهالي الأسرى الإسرائيليين في الأيام الماضية.

في الأيام الأولى للحرب على غزة كان أقارب الأسرى، وخاصة أقارب الأسرى المدنيين، يتجمعون في تل أبيب ومدن أخرى، ويحاولون لفت الانتباه إلى محنتهم في مظاهرات تتسم بالهدوء في الغالب.

ولكن في نهاية الأسبوع الماضي تغيَّرت الأمور، وبدأت العائلات تطالب بإطلاق سراح الأسرى عاجلاً. ورغم أنهم لم يصرحوا بأن الهجوم البري على قطاع غزة يعرِّض الأسرى للخطر، فإنهم أشاروا إلى ذلك، حسبما ورد في تقرير لموقع ميدل إيست آي البريطاني.

ومن الواضح أن أهالي الأسرى الإسرائيليين كانوا يعرفون أن الجهر بمعارضة الهجوم البري ليس بالأمر المقبول لدى الجمهور الإسرائيلي العازم على الانتقام لما حدث في هجوم السابع من أكتوبر.

لذا لجأ أهالي الأسرى إلى مطالبة الحكومة وجيش الاحتلال بأن يجعلا مسألة إعادة الأسرى إلى أحبائهم أولوية لهما، ثم يواصلا بعد ذلك الهجوم البري والقصف الجوي على غزة لإخضاعها، ويبدو أن هذا المطلب فرض بعض الضغوط على جيش الاحتلال وعلى رئيس وزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

على إثر ذلك، قال جيش الاحتلال إن الشروع في الهجوم البري هو السبيل لإرغام حماس على تخفيف شروطها في أي صفقة مزمعة، لكن لم يصرح أحد بطبيعة الصفقة التي ترغب السلطات الإسرائيلية في عقدها. وزعم جيش الاحتلال أن التفاوض بشأن الأسرى هو السبب في أن التوغل البري الذي بدأ في نهاية الأسبوع الماضي كان ضيق النطاق، وأن القوات الإسرائيلية لم تتوغل إلى المناطق السكنية ولا مدينة غزة نفسها.

وعلى الرغم من صعوبة الوقوف على صحة المزاعم بأن العملية البرية ستزيد من التضييق على حماس إلى حدٍّ يحملها على القبول بصفقةٍ توافق شروطها رغبات الاحتلال، فإن وسائل الإعلام الإسرائيلي تقبلت ما قاله الجنرالات.

أما نتنياهو فإن الانتقادات التي تلقاها من عائلات الأسرى كانت أشد حدةً بكثير، وأجبرته على لقاء بعض ممثليهم يوم السبت 28 أكتوبر، وقيل إن الاجتماع كان عصيباً، وإن العائلات اشتدت عليه في الحديث، واتهمته شخصياً بالمسؤولية عن الكارثة برمتها.

نظمت عائلات الأسرى الإسرائيليين بعد ذلك مظاهرة صغيرة في تل أبيب، أعربوا فيها عن مطلب جديد وهو “الجميع مقابل الجميع”، ولم يحدد أحد ما يعنيه ذلك من الناحية العملية، لكن فُهم أنهم يطالبون بإطلاق سراح جميع الأسرى في غزة، ومنهم جنود الاحتلال، مقابل إطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.

لم يُعرف حتى الآن العدد المحدد للأسرى الذين تحتجزهم حماس وغيرها من الفصائل في غزة، لكن سلطات الاحتلال قد عملت على تحديث العدد الإجمالي تصاعدياً، وتقول الآن إن هناك 240 أسيراً، منهم نحو 30 جندياً.

وعندما سُئل نتنياهو بعد ذلك عن هذا الاحتمال، لم يستبعده، وقال إنه احتمال مطروح على طاولة التفاوض، لكنه رفض الخوض في أي تفاصيل بشأن الأمر.

من اللافت للنظر أن فكرة الإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين تعدُّ من المحرمات في إسرائيل، حيث إن بعض هؤلاء الأسرى محكوم عليهم بالسجن المؤبد لاتهامهم بالمشاركة في هجمات على الإسرائيليين بالأراضي المحتلة خلال الانتفاضة الثانية.

و بعد هجوم السابع من أكتوبر على المستوطنات الإسرائيلية المحيطة بقطاع غزة، عقدت إسرائيل العزم على بلوغ هدف واحد وهو هو سحق حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، حيث أعلنت أنها تنوي “تطهير” غزة بالكامل من حماس، مهما كانت الوسيلة إلى ذلك، وحتى إذا استدعى الأمر إجبار جميع سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة على النزوح إلى مصر.

ولكن الآن، بدأت تتصاعد أهمية الهدف الآخر، وبات إطلاق سراح الأسرى من الأهداف الرئيسية كذلك للعملية العسكرية في غزة.

إلا أن الهدفين يُناقض أحدهما الآخر، فلا أحد يعرف كيف يمكن حقاً سحق حماس في قتالٍ يمتد من منزل إلى منزل ومن شارع إلى شارع، والسعي إلى إعادة الأسرى الإسرائيليين في الوقت نفسه. إنه أمر شديد الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً.

يضع ذلك التناقض إسرائيل في معضلة معقدة، لا سيما أن القصف الجوي المكثف الذي كان له النصيب الأكبر حتى الآن من خطة إسرائيل في هجومها على غزة، هذا القصف أدى بالفعل إلى مقتل أكثر من 8500 فلسطيني، منهم 3500 طفل.

وقالت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية إن واشنطن أرسلت العشرات من قوات الكوماندوز لإسرائيل لتحديد أماكن الأسرى بغزة.

ويدعي الجيش الإسرائيلي أنه قتل نحو 50 من كبار الرتب في حماس، و”مئات” من مقاتليها. لكن حتى إن أخذنا هذه المزاعم على محمل الجد، فإن عدد القتلى في صفوف حماس يكون قد بلغ نحو 500 قتيل، وهي نسبة صغيرة من الضحايا إذا قورنت إلى عدد الأطفال الذين قتلوا في الهجوم الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، كما أنه عدد ضئيل إذا قارن بالتقديرات الإسرائيلية لعدد مقاتلي حماس الذي كان 30 ألفاً قبل سنوات، وقد يكون قد ارتفع لـ50 ألفاً، كما يحيى السنوار زعيم حماس في غزة سبق أن قال إن إسرائيل لو اجتاحت غزة لواجهت نحو 70 ألفاً من مقاتلي المقاومة الفلسطينية.

ولا تهتم وسائل الإعلام الإسرائيلية كثيراً برأي العالم فيما تُحدثه غارات إسرائيل من خسائر هائلة في الأرواح بقطاع غزة، لكن الواقع يقول إنها يجب أن تهتم. فالرأي العالمي يتغير، وقد شهدت الولايات المتحدة ولندن وأماكن أخرى في أوروبا، فضلاً عن تركيا ومختلف أنحاء العالم العربي، مظاهرات حاشدة مؤيدة للفلسطينيين.

وفي الوقت نفسه، بدأ خطاب المسؤولين الغربيين يتغير، ومن الشواهد على ذلك أن مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان حثَّ إسرائيل علناً على حماية أرواح المدنيين في غزة، وهو تغير ملحوظ بالقياس إلى التأييد المطلق من الإدارة الأمريكية لإسرائيل منذ 7 أكتوبر.

ولا يتزايد الضغط على إسرائيل من الغرب فحسب، بل من العالم العربي أيضاً. وقد بدأت الهجمات تتوالى عليها من لبنان وسوريا واليمن، حيث يتواجد وكلاء إيران.

كذلك، فإن الهجوم البري الواسع على غزة يهدد بزعزعة استقرار الأنظمة الحاكمة في الأردن ومصر، والولايات المتحدة تولي هذا الأمر اهتماماً كبيراً، فهي تهتم بمصير حلفائها الاستراتيجيين في القاهرة وعمان أكثر بكثير من اهتمامها بأهل غزة.

علاوةً على ذلك، فإن غالب الظن أن الهجوم البري على غزة سيؤدي إلى مقتل معظم الأسرى، وهذا الأمر سيكون صدمة جماعية للإسرائيليين، ولقد ذكرت حماس أن القصف الإسرائيلي قتل بالفعل عدداً ليس بالقليل منهم.

وأحرجت “حماس” الحكومة الإسرائيلية وضغطت عليها وعلى نتنياهو بفيديو في خضم المعارك البرية، نشرته يوم الاثنين 30 أكتوبر لـ3 أسيرات إسرائيليات طالبن نتنياهو بالإفراج عنهن فوراً، كما اتهمت إحدى الأسيرات نتنياهو بالفشل، وقالت إنهن يتحملن فشله السياسي والأمني والعسكري والحكومي.  

ورد رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو واصفاً المقطع المصوَّر بدعاية “نفسية قاسية” من قبل حماس.

وقال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، أن حركة حماس قدمت تصوراً يبدأ بوقف العدوان وفتح المعابر وتبادل الأسرى وانتهاء بفتح المسار السياسي لقيام دولة فلسطينية وحق تقرير المصير، لكن نتنياهو يماطل.

ولهذه الأسباب كلها يرى موقع ميدل إيست آي البريطاني أنه المستبعد أن تشن إسرائيل هجوماً برياً شاملاً، ويرجح أن ترى قوات الاحتلال أن استمرار الحرب على الوتيرة الحالية -قصف وتوغلات برية محدودة، وربما تقسيم القطاع إلى قسمين، والتقدم إلى مشارف مدينة غزة- هو أفضل خيار لها.

لقد تعهد الإسرائيليون بحربٍ طويلة، تستمر بضعة أشهر على الأقل. وتجهز جنود الاحتياط لحربهم على هذا الأساس، ومع ذلك، لن يطيق اقتصاد متقدم كالاقتصاد الإسرائيلي أن يستمر هذا الصراع مدة طويلة.

وبالفعل فقد أشارت إلى أن الاقتصاد الإسرائيلي انكمش بعد الحرب بنسبة 11 % عن هذا الربع من العام، وإذا استمر النزاع عدة أشهر، فإن الأزمة في إسرائيل ستصبح أسوأ بكثير، وربما تضطر شركات التكنولوجيا المتقدمة إلى سحب استثماراتها وتسريح موظفيها.

لم تشهد هذه الحرب حتى الآن قلاقل داخلية كالتي شاهدناها في حرب 2021 على غزة، ولم تندلع المظاهرات وأعمال الشغب في المدن المختلطة بين الفلسطينيين واليهود، ومع ذلك فإن إسرائيل مشحونة بتوترات داخلية خطيرة؛ فالمواطنون الفلسطينيون في إسرائيل (نحو 20% من السكان) يُطردون من أماكن عملهم ومن الجامعات التي يدرسون فيها، ويتعرضون للهجوم إذا تعاطفوا مع الضحايا في غزة؛ وتلاحقهم الاتهامات لمجرد كونهم عرباً أو من أصول عربية.

واقتحمت حشود من الإسرائيليين، مساء السبت 28 أكتوبر سكناً جامعياً في مدينة نتانيا (وسط إسرائيل) يقيم فيه طلاب فلسطينيون، وأخذوا يهتفون الموت للعرب.

وفي الوقت نفسه، وعدت السلطات الإسرائيلية بتسليم 10 آلاف قطعة سلاح للمستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية المحتلة، وتخفيف اللوائح المفروضة على المدنيين للحصول على السلاح.

هذه التوترات بين الطوائف المختلفة من السكان في إسرائيل يمكن أن تدمر اقتصادها. فالمواطنون الفلسطينيون في إسرائيل (فضلاً عن العمال من الضفة الغربية) يضطلعون بمشاركة كبيرة في تقديم الخدمات الأساسية. ونحو ثلث الأطباء في إسرائيل هم من الفلسطينيين.

إذا أخذنا هذه الأمور في الاعتبار، فهل تستطيع إسرائيل حقاً مواصلة حربها على غزة بضعة أشهر متواصلة؟

الحل في تدخل المجتمع الدولي أو الدخول في سيناريو مأساوي

على مدى ثلاثة عقود، راهنَ نتنياهو على  على منع قيام دولة فلسطينية بالفصل بين الضفة الغربية وغزة، وتأليب حماس على فتح والعكس بالعكس. وقد كانت الأمور مستتبة له، والخطة التي يتعامل بها مع القطاع ماضية في سبيلها، حتى وقع هجوم السابع من أكتوبر.

لم يعد بقاء حماس في السلطة على غزة أمراً مقبولاً على الإطلاق لدى الشعب الإسرائيلي، وحتى لو أراد نتنياهو ذلك، فمن المستبعد أن يتمكن من إدارة الأمور على نحو يفضي إلى ذلك، بل لا شك أنه أكثر شخص مكروه في إسرائيل في الوقت الحالي؛ لأنه مسؤول عن أكبر كارثة شهدتها البلاد منذ عام 1973 م.

إن إسرائيل عالقة بين الرغبة في إبقاء الأسرى على قيد الحياة بالامتناع عن عملية برية كبرى، من جهة، والسعي إلى مواصلة حملة القصف لإزاحة حماس من السلطة، من الجهة الأخرى.

لقد أصبح النزاع في غزة صراعاً دولياً إلى حدٍّ بعيد، وتجاوز بكثير نطاق الانتفاضة الأولى والثانية وجولات القتال السابقة في القطاع. فقد توافد زعماء الدول الغربية على إسرائيل بعد اندلاع الحرب. ويرى بعض الخبراء أن هذا الصراع صار امتداداً للحرب الجارية في أوكرانيا، وحرب واشنطن الباردة مع روسيا والصين.

عاد الاهتمام فجأة بقضية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بعد أن كانت القضية في غياهب النسيان طوال العقدين الماضيين. ويبدو أن واشنطن -أو على الأقل إدارة جو بايدن- لم تعد مقتنعة بأن الإسرائيليين قادرون على إدارة الصراع بمفردهم.

ويذهب بعض المراقبين إلى أن الاستعانة بقوة دولية في غزة (وربما قوة عربية) لعله يكون وسيلة مقبولة لإنهاء القتال لدى إسرائيل وشعبها، وربما لدى الفلسطينيين، وحتى حماس.

في المقابل، هناك طريق أكثر شراً بكثير حسب الموقع البريطاني: وهو الاستمرار في قتال طويل، والسعي لتهجير جميع الفلسطينيين من غزة، والتضحية بعشرات الآلاف من القتلى، والمخاطرة بصراع إقليمي قد يشمل الأردن ومصر، وربما يهدد وجود إسرائيل ذاتها، حسب الموقع البريطاني.

ويقول الموقع إن هذا السيناريو السيئ للغاية قابل للحدوث، ولا ينبغي لنا أن نتجاهل احتمال وقوعه، لكن في الوقت نفسه علينا أن نستمسك بالأمل، وأن نرجو أن يتدخل المجتمع الدولي قبل أن تسير الأمور إلى أسوأ مسار لها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى